فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} أي: ابتدع إنشاءهما من نطفة إذا تدفق في الرحم.
{وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} أي: إعادة الخلق بعد مماتهم في نشأة أخرى لا تعلم، كما قال: {وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 61]، وذلك للحساب والجزاء، المترتب على أعمال الخير والشر، بالمصير إلى الجنة أو النار.
{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} أي: أغنى من شاء بالمال. وأقناه أي: جعل له قنية، وهو ما يدخره من أشرف أمواله {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} وهو نجم مضيء خلف الجوزاء، وكان بعض أهل الجاهلية يعبده.
{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [50- 56].
{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} يعني قوم هود. وسميت {الْأُولَى} لتقدمها في الزمان.
{وَثَمُودَ} أي: قوم صالح {فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} أي: أشد في كفرهم {وَأَطْغَى} أي: أشد طغيانًا وعصيانًا من الذين أهلكوا بعدهم، لتمردهم على الكفر، وردّ دعوته في طول مدته بينهم، وهي أطول مدد الأنبياء عليهم السلام.
{وَالْمُؤْتَفِكَةَ} أي: قرى قوم لوط التي ائتفكت بأهلها، أي: انقلبت.
{أَهْوَى} أي: أهواها على أهلها ودمّرها.
{فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} أي: من العذاب السماويّ الذي صب عليها.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ} أي: نعمائه.
{تَتَمَارَى} أي: ترتاب وتشك وتجادل في أنها ليست من عنده، وهو الذي أنعم بالإغناء والإقناء وإرسال الرسل، وقهر أعدائهم.
{هَذَا} أي: القرآن {نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى} أي: إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم. أو هذا الرسول نذير من جنس من تقدمه، ليس بدعًا من الرسل.
{أَزِفَتْ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [57- 58].
{أَزِفَتْ الْآزِفَةُ} أي: قربت القيامة الموصوفة بالقرب. فاللام في {الْآزِفَةِ} للعهد وقيل: الآزفة علم بالغلبة للساعة هنا، لئلا يلزم وصف القريب بالقريب.
قال الشهاب: وفيه نظر، لأن وصف القريب بالقرب يفيد المبالغة في قربه، كما يدل على الافتعال في اقتربت.
{لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} أي: ليس لقيامها غير الله مبّين لوقتها، كقوله: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187]، و{كَاشِفَةٌ} صفة محذوف، أي: نفس كاشفة، أو حال كاشفة أو التاء للمبالغة. أو هو مصدر بني على التأنيث و{مِّن دُونِ اللّهِ} بمعنى غير الله، أو إلا الله. وقيل: الكشف بمعنى الإزالة، أي: ليس لها نفس كاشفة إذا وقعت، إلا هو تعالى، من كشف الغماء.
{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [59- 62].
{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} يعني القرآن الذي قص ما تقدم، وأنذر بما أخبر {تَعْجَبُونَ} أي: تعجب إنكار مع أن ما حواه مما يلجئ إلى الإذعان والإقرار، بل مما يفيض لحقيته الدمع المدرار، كما قال: {وَتَضْحَكُونَ} أي: استهزاء {وَلَا تَبْكُونَ} أي: مما فيه من وعيد للعصاة، ومما فرط منكم قبل سماع ذكراه كما يفعله الموقنون به، المحدث عنهم في آية: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] {وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} أي: لاهون عما فيه من العبر، معرضون عن آياته كبرًا.
قال مجاهد: كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه وسلم غضابًا مبرطمين، أي: شامخين.
وعن ابن عباس: هو الغناء: كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا، وهي لغة أهل اليمن. يقولون: اسمدْ لنا: تغنّ لنا. والمآل والمشركين. تلفت العبارة عنه. ولا ريب أن كل ذلك مما كان يصدر عن المشركين.
قال في (الإكليل): فيه استحباب البكاء عند القراءة، وذم الضحك والغنا واللهو واللعب والغفلة، كما فسر بالأربعة قوله: {سَامِدُونَ} وفسره السديّ بالاستكبار.
{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} أي: واعبدوه دون من سواه من الأوثان، فإنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا له، فلا تجعلوا له شريكًا في عبادته.
وعن عبد الله بن مسعود قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة {وَالنَّجْمِ} «فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم» وسجد من خلفه... الحديث. وتقدم في أول السورة.
وروى الإمام أحمد عن المطّلب بن وداعة قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم، فسجد» وسجد من عنده، فرفعت رأسي فأبيت أن أسجد- ولم يكن أسلم يومئذ المطلب- فكان بعد ذلك لا يسمع أحدًا قرأها إلا سجد معه. ورواه النساني. اهـ.

.قال سيد قطب:

{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)}.
في هذا المطلع نعيش لحظات في ذلك الأفق الوضيء الطليق المرفرف الذي عاش فيه قلب محمد- صلوات الله وسلامه عليه- ونرف بأجنحة النور المنطلقة إلى ذلك الملأ الأعلى؛ ونستمع إلى الإيقاع الرخي المناسب، في جرس العبارة وفي ظلالها وإيحائها على السواء.
نعيش لحظات مع قلب محمد صلى الله عليه وسلم مكشوفة عنه الحجب، مزاحة عنه الأستار. يتلقى من الملأ الأعلى. يسمع ويرى، ويحفظ ما وعى. وهي لحظات خص بها ذلك القلب المصفى؛ ولكن الله يمن على عباده، فيصف لهم هذه اللحظات وصفًا موحيًا مؤثرًا. ينقل أصداءها وظلالها وإيحاءها إلى قلوبهم. يصف لهم رحلة هذا القلب المصفى، في رحاب الملأ الأعلى. يصفها لهم خطوة خطوة، ومشهدًا مشهدًا، وحالة حالة، حتى لكأنهم كانوا شاهديها.
ويبدأ الوصف الموحي بقسم من الله سبحانه: {والنجم إذا هوى}.. وحركة تلألؤ النجم ثم هويه ودنوه. أشبه بمشهد جبريل المقسم عليه: {وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى} وهكذا يبدأ التناسق والتوافق في المشهد والحركة والظل والإيقاع منذ اللحظة الأولى.
{والنجم إذا هوى}.. وقد رويت تفسيرات مختلفة للنجم المقصود في هذا القسم.
وأقرب ما يرد على الذهن إنها إشارة إلى الشعرى، التي كان بعضهم يعبدها. والتي ورد ذكرها في السورة فيما بعد في قوله: {وأنه هو رب الشعرى}.. وقد كان للشعرى من اهتمام الأقدمين حظ كبير. ومما هو معروف أن قدماء المصريين كانوا يوقتون فيضان النيل بعبور الشعرى بالفلك الأعلى. ويرصدونها من أجل هذا ويرقبون حركاتها. ولها شأن في أساطير الفرس وأساطير العرب على السواء. فالأقرب أن تكون هذه الإشارة هنا إليها. ويكون اختيار مشهد هويّ النجم مقصودًا للتناسق الذي أشرنا إليه. ولمعنى آخر هو الإيحاء بأن النجم مهما يكن عظيمًا هائلًا فإنه يهوي ويتغير مقامه. فلا يليق أن يكون معبودًا. فللمعبود الثبات والارتفاع والدوام.
ذلك هو القسم. فأما المقسم عليه، فهو أمر النبي صلى الله عليه وسلم مع الوحي الذي يحدثهم عنه:
{ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}..
فصاحبكم راشد غير ضال. مهتد غير غاو. مخلص غير مغرض. مبلغ بالحق عن الحق غير واهم ولا مفتر ولا مبتدع. ولا ناطق عن الهوى فيما يبلغكم من الرسالة. إن هو إلا وحي يوحى. وهو يبلغكم ما يوحى إليه صادقًا أمينًا.
هذا الوحي معروف حامله. مستيقن طريقه. مشهودة رحلته. رآه الرسول صلى الله عليه وسلم رأي العين والقلب، فلم يكن واهمًا ولا مخدوعًا:
{علّمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى}..
والشديد القوي ذو المرة (أي القوة)، هو جبريل- عليه السلام- وهو الذي علم صاحبكم ما بلغه إليكم. وهذا هو الطريق، وهذه هي الرحلة، مشهودة بدقائقها: استوى وهو بالأفق الأعلى. حيث رآه محمد صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في مبدأ الوحي. حين رآه على صورته التي خلقه الله عليها، يسد بالأفق بخلقه الهائل. ثم دنا منه فتدلى نازلًا مقتربًا إليه. فكان أقرب ما يكون منه. على بعد ما بين القوسين أو أدنى- وهو تعبير عن منتهى القرب- فأوحى إلى عبد الله ما أوحى. بهذا الإجمال والتفخيم والتهويل.
فهي رؤية عن قرب بعد الترائي عن بعد. وهو وحي وتعليم ومشاهدة وتيقن.
وهي حال لا يتأتى معها كذب في الرؤية، ولا تحتمل مماراة أو مجادلة: {ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى}.. ورؤية الفؤاد أصدق وأثبت، لأنها تنفي خداع النظر. فلقد رأى فتثبت فاستيقن فؤاده أنه الملك، حامل الوحي، رسول ربه إليه، ليعلمه ويكلفه تبليغ ما يعلم. وانتهى المراء والجدال، فما عاد لهما مكان بعد تثبت القلب ويقين الفؤاد.
وليست هذه هي المرة الوحيدة التي رآه فيها على صورته. فقد تكررت مرة أخرى:
{ولقد رآه نزله أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى}.
وكان ذلك في ليلة الإسراء والمعراج- على الراجح من الروايات- فقد دنا منه- وهو على هيئته التي خلقه الله بها مرة أخرى {عند سدرة المنتهى}.. والسدرة كما يعرف من اللفظ شجرة. فأما أنها سدرة المنتهى. فقد يعني هذا أنها التي ينتهي إليها المطاف. فجنة المأوى عندها. أو التي انتهت إليها رحلة المعراج. أو التي انتهت إليها صحبة جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وقف هو وصعد محمد صلى الله عليه وسلم درجة أخرى أقرب إلى عرش ربه وأدنى.. وكله غيب من غيب الله، أطلع عليه عبده المصطفى، ولم يرد إلينا عنه إلا هذا. وكله أمر فوق طاقتنا أن ندرك كيفيته. فلا يدركها الإنسان إلا بمشيئة من خالقه وخالق الملائكة، العليم بخصائص الإنسان وخصائص الملائكة..
ويذكر ما لابس هذه الرؤية عند سدرة المنتهى. زيادة في التوكيد واليقين: {إذ يغشى السدرة ما يغشى}.. مما لا يفصله ولا يحدده. فقد كان أهول وأضخم من الوصف والتحديد.
وكان ذلك كله حقًا يقينًا: {ما زاغ البصر وما طغى}.. فلم يكن زغللة عين، ولا تجاوز رؤية. إنما هي المشاهدة الواضحة المحققة، التي لا تحتمل شكًا ولا ظنًا. وقد عاين فيها من آيات ربه الكبرى، واتصل قلبه بالحقيقة عارية مباشرة مكشوفة.
فالأمر إذن- أمر الوحي- أمر عيان مشهود. ورؤية محققة. ويقين جازم. واتصال مباشر. ومعرفة مؤكدة. وصحبة محسوسة. ورحلة واقعية. بكل تفصيلاتها ومراجعها.. وعلى هذا اليقين تقوم دعوة {صاحبكم} الذي تنكرون عليه وتكذبونه وتشككون في صدق الوحي إليه. وهو صاحبكم الذي عرفتموه وخبرتموه وما هو بغريب عنكم فتجهلوه. وربه يصدقه ويقسم على صدقه. ويقص عليكم كيف أوحى إليه. وفي أي الظروف. وعلى يد من وكيف لاقاه. وأين رآه!
ذلك هو الأمر المستيقن، الذي يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم فأما هم فعلام يستندون في عبادتهم وآلهتهم وأساطيرهم؟ علام يستندون في عبادتهم للات والعزى ومناة؟ وفي ادعائهم الغامض أنهن ملائكة، وأن الملائكة بنات الله؟ وأن لهن شفاعة ترتجى عند الله؟ إلى أي بينة؟ وإلى أي حجة؟ وإلى أي سلطان يرتكنون في هذه الأوهام؟ هذا ما يعالجه المقطع الثاني في السورة:
{أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذًا قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنىفلله الآخرة والأولى وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا}..
وكانت {اللات} صخرة بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظّم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب عدا قريش لأن عندهم الكعبة بيت إبراهيم عليه السلام. ويظن أن اسمها {اللات} مؤنث لفظ الجلالة {الله}. سبحانه وتعالى.
وكانت {العزى} شجرة عليها بناء وأستار بنخلة- وهي بين مكة والطائف- وكانت قريش تعظمها. كما قال أبو سفيان يوم أحد. لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» ويظن أن اسمها {العزى} مؤنث {العزيز}..
وكانت {مناة} بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة. وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتهم يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة.
وكان بالجزيرة كثير من هذه المعبودات تعظمها القبائل المختلفة. ولكن هذه الثلاثة كانت أعظمها.
والمظنون أن هذه المعبودات كانت رموزاَ لملائكة يعتبرهن العرب إناثًا ويقولون: إنهن بنات الله. ومن هنا جاءت عبادتها، والذي يقع غالبًا أن ينسى الأصل، ثم تصبح هذه الرموز معبودات بذاتها عند جمهرة العباد. ولا تبقى إلا قلة متنورة هي التي تذكر أصل الأسطورة!
فلما ذكر الله هذه المعبودات الثلاثة معجِّبًا منها ومن عبادتها كما تفيد صيغة السؤال ولفظه:
{أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى}..
والتعجيب والتشهير واضح في افتتاح السؤال: {أفرأيتم} وفي الحديث عن مناة.. الثالثة الأخرى.. لما ذكر الله هذه المعبودات عقب عليها باستنكار دعواهم أن لله الإناث وأن لهم الذكور:
{ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذًا قسمة ضيزى}..
مما يوحي بأن لهذه المعبودات صلة بأسطورة أنوثة الملائكة، ونسبتها إلى الله سبحانه. مما يرجح ما ذكرناه عنها. وقد كانوا هم يكرهون ولادة البنات لهم. ومع هذا لم يستحيوا أن يجعلوا الملائكة إناثًا- وهم لا يعلمون عنهم شيئًا يلزمهم بهذا التصور. وأن ينسبوا هؤلاء الإناث إلى الله!
والله- سبحانه- يأخذهم هنا بتصوراتهم وأساطيرهم؛ ويسخر منها ومنهم: {ألكم الذكر وله الأنثى}.. إنها إذن قسمة غير عادلة قسمتكم بين أنفسكم وبين الله! {تلك إذًا قسمة ضيزى}..
والمسألة كلها وهم لا أساس له من العلم ولا من الواقع. ولا حجة فيها ولا دليل:
{إن هي إلا أسماء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى}!
هذه الأسماء. اللات. العزى. مناة.. وغيرها. وتسميتها آلهة وتسميتها ملائكة. وتسمية الملائكة إناثًا. وتسمية الإناث بنات الله. كلها أسماء لا مدلول لها، ولا حقيقة وراءها. ولم يجعل الله لكم حجة فيها. وكل ما لم يقرره الله فلا قوة فيه ولا سلطان له. لأنه لا حقيقة له. وللحقيقة ثقل. وللحقيقة قوة. وللحقيقة سلطان فأما الأباطيل فهي خفيفة لا وزن لها. ضعيفة لا قوة لها. مهينة لا سلطان فيها.
وفي منتصف الآية يتركهم وأوهامهم وأساطيرهم، ويترك خطابهم، ويلتفت عنهم كأنهم لا وجود لهم، ويتحدث عنهم بصيغة الغائب: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس}.. فلا حجة ولا علم ولا يقين. إنما هو الظن يقيمون عليه العقيدة، والهوى يستمدون منه الدليل. والعقيدة لا مجال فيها للظن والهوى؛ ولا بد فيها من اليقين القاطع والتجرد من الهوى والغرض.. وهم لم يتبعوا الظن والهوى ولهم عذر أو علة: {ولقد جاءهم من ربهم الهدى}.. فانقطع العذر وبطل التعلل!